الأربعاء، 6 ديسمبر 2023

قاف ( وسيلة ) القافري ..

 

قاف ( وسيلة )

للشاعر معيض القافري رحمه الله تعالى([1])

 

القاف نوع من الشعر الشعبي في المنطقة الجنوبية من المملكة العربية السعودية وخاصة في منطقة الباحة وهي منظومات شعرية مطولة موزونة ومقفاة وتسمى أيضاً ( الوسيلة ) تجهز للغلمان عند ختانهم حيث كان الختان لا يتم إلا بعد أن يقارب الغلام البلوغ, ويتم الختان ( الطهار ) عادة بحضور أخوال الغلام وجماعته في احتفال جماعي ويتوجب على الغلام إثبات شجاعته وقدرته على التحمل بأن يتغنى بالقاف المجهز له دون أن يبدي تأثره أو يهتز أثناء عملية الختان..

كما تنظم القيفان من بعض الشعراء في حالات مختلفة فإذا كانت تتضمن التقرب إلى الله والتوسل إليه والدعاء ووصف الزيارة النبوية فتسمى ( وسيلة )([2]), ومنها هذه الوسيلة التي نظمها الشاعر معيض القافري الزهراني أثناء مرضه رحمه الله تعالى.

قال ابن خُرمان:

استفتح الشاعر وسيلته بالتوجه إلى الله سبحانه وتعالى وتمجيده وذكر بعض الصفات التي وصف الله بها ذاته, فقال:

يالله يالله يالله          يالله يالله يالله

يالله يالله يالله         سبحانك انت الوالي

سبحانك يا عظيماً      مفرّج كل ضيما

ورحمن رحيما       دايم رقيب عالي

ثم ينتقل الشاعر بأن يسأل الله جل جلاه أن يجيره من النار وأن يغفر له عندما تحين وفاته وينتقل إلى رحمة الله فالموت حق لابد منه على الجميع جبابرتهم وصالحيهم:

سبحانك انت الغفار      يالله نجير([3]) بك م النار

ومن جميع الأوزار     إلى([4]) وفى المكيالي

يا قلب كيف الأعذار      الموت ما فيه أبصار

غدى بهيف الكفار([5])        وكل وجه غالي

قال ابن خُرمان:

تجول الذكريات في ذهن الشاعر فيتساءل عن الأخيار والصالحين وأصحاب العلم فقد ذهبوا جميعاً وتركوا كل شيء وراءهم وعلى هذا الحال سيكون مصير الجميع بما فيهم الشاعر نفسه:

نتفكر فين الأخيار      أهل الكتب والأمهار

تلاحقوا في المشوار     كبوا ذيك الزوالي

ربي يكيل الأعمار      وكل شي بالمقدار

لا بدنا بالمصدار        ولا بد م الزوالِ

ثم يذكر لنا الشاعر أن هذه الهواجس والأفكار والتي شبهها كالحليب أو العسل سببها المرض الذي أصابه ومع هذا فهو صابر محتسب لقضاء الله وقدره:

انتاشتني الأخبار      من هاجس فيه أفكار

كما محض م الأبكار      وإلا جلس النحالِ

يحثها شرّ جار         بالليل وبالأنهار([6])

ولحكم ربي صبّار       ولا تسمم حالي([7])

هنا يشرح لنا الشاعر معاناته مع المرض حيث مضى عليه سبعة أشهر في معاناته لا يستطيع الوقوف بسبب هذا المرض الذي أقعده عن الوقوف والسير على قدمية وسبب له الشلل بعد أن كان في نشاط وقوة من قبل وما زاد المعاناة قلة زيارة الناس له بعد العزة والمنعة:

قعدت سبعة شهور      م الشر والضيم أهور([8])

وعن قيامي مقهور     صم الحصى تأوى لي([9])

قلبي من الشر منجور      من مرض فيه الجور

ما احد يقول لي ماجور    ورا ذاك العلالي

قال ابن خُرمان:

هذا الحال وهذه الذكريات جعلت الشاعر الذي مقره في قرية القفرة إحدى قرى بالحكم في تهامة يتمنى أن يرى قرى بالحكم الواقعة في السراة ابتداءً من العامية ثم دار المسيد وينتهي بقرية بني حريم وأن يقضي فيها أسبوعاً قبل أن يتوفاه الله, ثم يمتدح رجال بالحكم في هذه القرى بصفات الشجاعة والحكمة ويشبههم بالجيش الكبير فيقول:

يا ليتني أبصر الدور        قدام ياجي المقدور

أدرج فيها ملا الدور       أيامي والليالي

فيها من كل منعور         م العامية ودار العور([10])

وأهل الخيالة في الشور      للعرضة والقتالِ([11])

مثيل صرخ الطابور        في المرشح اللي مذكور([12])

مشيخ بالصابور         ربضانه والعوالي([13])       

 

يواصل شاعرنا الحديث عن قومه مبيناً بعض صفاتهم فهم شم الأنوف لا يرضون الذل والعار ما داموا ثم يذكر موقع قرى بالحكم في السراة من جبل الأنصب حتى الخرار الذي به قرى بالحكم في تربة ( القرنطة والصداق) , ويشبه شدتهم بكحال الجنزار وهو الكحل الحار الذي تدمع منه العيون, ويواصل الوصف والمدح لمن سكن هذه القرى والتي تستحق الزيارة وبعد أن دعا الله لهم بالمطر فإنهم أهل الكرم والنجدة وفيهم ثلاثمائة من أصحاب المزارع الكثيرة والذين بكرمهم ومع غناهم لن يتركوا للجوع مكاناً بين ربعهم عند البلاء فيقول:

قومي يجلون العار        ما دامت دار(ن) في دار

م الأنصب لا والخرار       من أول في تالي([14])

كما كحال الجنزار       المرشح اللي ينزار([15]) 

يسقي بنو غزار         من سارح هجالِ

وأهله سعود الخطار      من يوم تغلى الأسعار

ثلاثمية سعار             إلى بلاهم بالي([16])

قال ابن خُرمان:

ينتقل بنا الشاعر إلى وصف حالته والتي سببت له ألماً نفسياً يضاف إلى آلامه العضوية فقد أصابه الأرق والقلق والتأسف على عدم قدرته مشاركته زهران في حروبهم ضد الأتراك بسبب كبر سنه وبسبب المرض الذي أصاب رجليه فلا يستطيع الوقوف رغم أنه من الشجاعة بمكان , فهو أحد فرسان الحروب القبلية في شبابه ويعتبر تخلفه عن مشاركة زهران هزيمة شخصية له, ومع هذا يشرح سبب هذا التأخر عنهم وأنه ليس جبناً ثم يدعو على من يلومه رغم ظروفه فيقول:

معيض حرم نومه          يوم اندرق عن قومه([17])

رمى الله من يلومه          ببارق متلالي

قوائمه مسقومة         جاه البلا من يومه

وركبه ملزومة         يمينه والشمالِ

ويستمر الشاعر في وصف حالته وشدة مرضه فقد أصيب بعمى العينين بسبب كبر سنه حتى أن أهله بدأوا يهتمون بأشغالهم ويتجاهلون طلباته مثل كسوته خاصة مع غلاء الأسعار ولطول مدة مرضه بدأ الملل يتسلل إليهم ورغم حرارة أجواء تهامة التي يعيش فيها إلا أن لا أحد منهم حاول الصعود به إلى قرى السراة كما تمنى في جزء سابق من القاف:

حل الشر في عيوني         وأهل الزمان أعيوني

وكسوتي من دوني          يوم رايوا السعر الغالي([18])

منها تغير لوني           وقربتي ملوني

جوف الحما خلوني        مريض من متى لي([19])

يواصل الشاعر شرح معاناته مع المرض والذي كما يذكر تكرر سبع مرات مما جعله يغبط الموتى حيث أن أعداءه يشمتون بحالته ويشبهونها بحالة شخص كان قليل العقل لا يهتم به أحد يدعى أحمد السيالي:

أشكي من علة(ن) جات       علتني سبع مرات

واهنّي للذي مات          بالليل والمقيالِ

يضحك علي الشمات        يوم راي فيّ الخلات

يقول يا عود إيهات         بيتلحق السيالي   

قال ابن خُرمان:

يعود الشاعر إلى فروسيته فيقسم أنه ليس ممن يستحق الشماتة فهو من أهل العزة والمنعة والشرف ويفتخر بجده وخاله كعادة العرب:

وحياة قاضي الحاجات        إني من أهل القالات

ما انا عنهم بمفتات         أعرف جدي وخالي([20])

وينتقل الشاعر إلى الفخر بقومه ( بالحكم ) الذين حلوا بجبل الأنصب على عز وتكاتف ثم يذكر قراهم في تهامة من الخمر إلى ثمران والتي شبهها بالمنحدر الصخري لشدتهم ومنعتهم, ويضيف بلسان الفارس الشجاع أنهم اعتادوا على تجهيز أسلحتهم وصناعة البارود إستعداداً لصد أي إعتداء ويبالغ في ذلك حتى لو تصادمت الجبال :

قومي حلوا بغيثان           على عز وجبران([21])  

من الخمر لا ثمران         كما جرف الهيالِ

خذو سحق الغرب شأن         مونة لصافي النيشان ([22])

يوم يلعبون البيشان          يتصدر العيالي

تطالقوا أهل الفرسان       إنا ما نفرق إنسان

لو كان ينطح ميسان        في الأنصب الطوالِ([23])

يعود الشاعر بعد ذلك إلى إيمانه بالله جل شأنه وقدرته فيلتجئ إليه بأن يشفيه ويفك عقدة رجليه متعهداً بالتمهل في سيره وترك ما كان يفعله في شبابه من الضيافة والرماية والحروب وكأنه يستحضر قول الله تعالى في سورة الإسراء: ( وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا )([24]) فيقول:

يا لله تطلق قيدي         من أرجولي والأيدي

وأسير بالرويدي          ولا تخبث بالي([25])

عذرت في العويدي         وفي صب الثميدي 

واليوم ما حد ميدي          مثل اللباس البالي

قال ابن خُرمان: ينتقل بنا الشاعر وبما لديه من نوازع إيمانية وعلم وحكمة إلى الإرشاد والوعظ فينصح الجاهل أن المرض والفقد من أقدار الله تعالى فيذكر بقصة يوسف وإخوته عليهم السلام وبأن الشيطان نزغ بينهم فتسببوا لأبيهم بالحزن والمرض فيستمر بشرح القصة مما يدل على أنه كان قارئاً للقرآن الكريم:

يا جاهل ما يدري        حواكم الله تجري([26])

مع طلوع الفجري         والا العتيم التالي

جرت في أولاد يعقوب      أقفوا ويوسف مكبوب([27])

ما عودوا إلا بالثوب        عند أهلهم عجالِ

يبكون بالأحزانِ        أثارهم بالعاني([28])

على زوال الداني       ما هم من الرجالِ([29])

وقال أبوهم يا أولاد      فيين يوسف ما راد

وأنا لكم في الميعاد      أرجي شهر الهلالِ

قالوا غدينا ساعين        وهو عند المواعين

خذه والناس واعين       ذيب الخلا النشالِ

وجاه الذيب يدلا          يحلف بالرب الأعلى([30])

إني من اللي يبلى        بالظلم والظلالِ

يوسف في البير شلّوه        معا وأقفوا وخلوه

وكيف صخيّـوا تلّوه         في مظلم الأجوالِ([31])

وجاه حاكم مصرا           قدام ياجي العصرا

وأستطلعه في القصرا          ورا جبد الحبالِ

يوسف نبي صديق       أعطاه ربي التصديق([32])

وكل شيء بالتحقيق       وهو وسيع الجالِ

ثم يكمل شاعرنا وسيلته مستذكراً قصة إبتلاء الله لنبيه أيوب بالمرض وصبره على ذلك رغم الآلام والمعاناة فهاهم الأنبياء تحملوا وصبروا حتى جاءهم الفرج من الله تعالى واقتداءً بهم وثقة في رحمة الله تعالى سيصبر على ما أصابه ويلجأ إلى الله سبحانه فهو العزيز الجبار القادر على كل شيء فيقول:

لطف حتى بأيوب        وأبرا جواب مكتوب([33])

وفك جلد مصلوب        ونزله نزّالي([34])

م الأنبياء صار اثنين       كل منهم ظل عين

ولا تجافوا كلين        من حكم ذا الجلالِ([35])

وانا فباصبر ذالحين        على شرٌّ به البين

ضم الظهر والرجلين       والله يقبل سوالي

ربي عزيز جبار       هدم أهل التكبار

وكل مخلوق جار      يصبح مراحه خالِ

ربي عظيم شأنه        يلطف بنا سبحانه

ولا بدا برهانه         في شربة الفنجالِ

يختتم الشاعر وسيلته بذكر الله الدائم وحبه للكعبة المشرفة والأماكن المقدسة, ثم بالصلاة على النبي المختار محمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:

وأختم بصافي الأركان         وسائل بوزّان([36])    

ما دام برق الحيزان         ودام الماء الزلالِ([37])  

صلّـوا معي ع المختار         اللي في قبره ينزار

مهيمن(ن)  ع الكفار             محمد العدناني

قال ابن خُرمان:

أتمنى أن أكون وفقت إلى شرح هذا القاف أو الوسيلة بما يرضي القارئ الكريم, وأسأل الله أن يرحم الشاعر معيض بن يحيى القافري الزهراني ووالدينا ومن له حق علينا.

 

كتبه/

علي بن ضيف الله بن خُرمان الزهراني

الدمام 6 شوال 1442هـ الموافق 18 مايو 2021م.

 ..........

نشرت في صحيفة أحوال الإلكترونية  على الرابط

https://ahwal.sa/archives/12252

 



[1]) وهو الشاعر معيض بن يحيى القافري الزهراني من قرية القفرة ببالحكم .

[2]) راجع صفحة (89) من كتاب ( اللخمي  - حياته وشعره ) الطبعة الأولى للمؤلف.

[3]) نستجير بك.

[4]) إذا.

[5]) قضى على الجبابرة والكفار.

[6]) بالليل والنهار.

[7]) لم يصيبني الضجر من قضاء الله تعالى.

[8]) أتألم.

[9]) صم الحصا: الصخور الصلبة. تأوى لي: ترحمني.

[10]) منعور: ذو نخوة وشجاعة. دار العور: قرية المسجد.

[11]) الخيالة: قرية بني حريم.

[12]) صرخ الطابور: الجيش الكبير. المرشح: طفة المرشح موقع قرى بالحكم في السراة.

[13]) مشيخ بالصابور: خشب البيوت من العرعر. ربضانه: الأدوار السفلية للبيوت. العوالي: الأدوار العليا.

[14]) الأنصب جبل مشهور لبالحكم . الخرار: موقع عند قرى بالحكم في تربة ( القرنطة والصداق) .

[15]) كحال الجنزار: نوع من الكحل الحار.

[16])إلى: إذا.

[17]) غاب عن محاربة الأتراك.

[18]) رايوا: رأوا أو شاهدوا.

[19]) الحما: حر تهامة. خلوني: تركوني.

[20]) مفتا: من الفوت أي ليس عنهم بعيداً.

[21]) غيثان: جبل الأنصب.

[22]) سحق الغرب: لصناعة البارود. صافي النيشان: البنادق.

[23]) ميسان: جبل في تهامة زهران يتصل بالأنصب.

[24]) الآية : 37.

[25]) بالرويدي: على مهل.

[26]) حواكم الله تجري: أقدار الله تجري على الجميع.

[27]) أقفوا: ذهبوا. مكبوب: في البئر.

[28]) بالعاني: متعمدون.

[29]) على زوال الداني: دعاء بالزوال على الدنئ.

[30]) يدلا: خاضعاً يحلف ببراءته.

[31]) أقفوا وخلوه: ذهبوا وتركوه. كيف صخيوا: كيف هان عليهم.

[32]) أعطاه ربي التصديق: إشارة إلى قول الله تعالى: ( يوسف أيها الصديق ) الآية.

[33]) أبرا: شفاه من المرض.

[34]) فك جلد المصلوب: الأمراض التي أصابت أيوب عليه السلام.

[35]) كل منهم ظل عين: أصابه القدر. ولا تجافوا كلين: كلاهما لم يتضجرا من قدر الله.

[36]) صافي الأركان: الكعبة المشرفة. سائل بوزان: موزون.

[37]) الحيزان: الجبال البعيدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق