الجمعة، 14 أبريل 2023

واحتملته على كتفي وعوّد يقول اتعبتني

 بسم الله الرحمن الرحيم


يعاني الناس في حياتهم وتتنوع آلامهم، وتكثر الجراح التي يُصاب بها الإنسان منها جراح في الجسم إما لمرض أو إصابة معينة أو مشاكل حلت عليه، وجميع هذه الآلام والجروح يمكن معالجتها والاستشفاء منها إلا نوع من الجروح، وهو جرح المشاعر وكسر الخواطر فمهما تقادم عليها الزمن وحاول الشخص تناسيها لا بد أن يبقى لها في القلب ندوبًا لا يمحيها الزمن ولا تزول من الذاكرة، وقد يحاول البعض التغاضي وتجاهل الأمر لكنه كلما قابل من جرحه وإن ابتسم في وجهه تعود له آلام ذلك الجرح العميق في النفس.
وقد أمر ديننا الحنيف بمراعاة مشاعر الناس؛ حيث ورد في القرآن الكريم الأمر في آيات منها قول الله تعالى في سورة الضحى (
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)، وقوله تعالى في سورة النساء (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا). وتزخر سيرة المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- بالعديد من المواقف التي كان يهتم فيها بمراعاة مشاعر الناس منها على سبيل المثال عند وفاة رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول أتى ابنه الصحابي الجليل عبدالله -رضي الله عنه- فطلب من الرسول قميصًا يكفن به والده فأعطاه، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه عند إسلام عكرمة بن أبي جهل فيما معناه (يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت)، وغير هذا من القصص التي لا يتسع المجال وطبيعة المقال لذكرها.
قال ابن خُرمان
: وفي الأدب العربي شعره ونثره كمٌ من القصص والأبيات عن كسر الخواطر وجرح المشاعر وتأثيرها على الإنسان، ولعلنا نورد هنا بعضًا منها قال الشاعر:
كم باسم والحزن يملأ قلبه * والناس تحسب أنه مسرور
وتراهُ في جبر الخواطر ساعيًا * وفؤادهُ متصدع مكسورُ

وقال آخر:

النَّفْسُ تَأْنَفُ دَوْمًـــا مَـــنْ يُكَدِّرُهَـــا * لَا يَرْتَضِـــي أَحَـــدٌ عَيْشًـــا بِأَكْـــدَارِ

مَنْ يَدَّعِي الْعَيْشَ فِي قَلْبٍ وَيُحْرِقُهُ * كَمِثْلِ مَنْ يُضْرِمُ النِّيرَانَ فِـــي الدَّارِ
ويزيد الألم والمعاناة كلما كان السبب من قريب فالطعنة تكون أشد ألمًا، وقد حذر أحد شعراء النظم الشعبي من كسر الخواطر بقوله:
ما تربينا على كسر الخواطر * لو خواطرنا من العالم تكسر
امزحوا في كل شي الا المشاعر ** جرحها يبطي ويمكن ما تجبر

قال ابن خُرمان:
ونستمر مع الشعر حيث قال الشاعر السوري فاضل أصفر:
وأفقرُ الشِّعرِ شِعرٌ ما به عِظةٌ * وأثمنُ الشِّعرِ ما يُبنى على الحِكَمِ
فننتقل إلى شعر الشقر فنتوقف عند شاعر الحكمة الشاعر الكبير صالح بن محمد اللخمي الزهراني والذي سطر في شعره العديد من الحكم والنصائح وفي عدة مواضيع والتي حفظها محبو شعر الشقر، ويتناقلونها ويستشهدون بها منها قصائد عن (الصديق، والكفالة، والمهور، والجار، وتغيرات الزمن وغيرها)، ونختار له في موضوعنا هذا القصيدة التالية:
كل كسر يطيب إلا كسور الخواطر ما تطيب
والكلام القبيح أمضى من السيف ما تبرا جروحه
والرضا ما يجي من واحد ضيقه أكبر من رضاه
ابغي اقدم المعروف لكن وين القى جزا له
في زمان الجفا حتى اقرب الناس ما يتمعرفون
كم تحملت من ظلم اقربانا ومن غدر اصدقانا
والمصيبة ان رميات القفا ما تجي الا من صديق
بعضهم يوم صافحته بكفي يقول اتعبت ايادي
واحتملته على كتفي وعود يقول اتعبتني

ورغم وضوح القصيدة إلا أنني سأقوم هنا بإلقاء نظرة على ما ورد فيها فالشاعر ابتدأها بالقول:
كل كسر يطيب الا كسور الخواطر ما تطيب
والكلام القبيح امضى من السيف ما تبرا جروحه
والرضا ما يجي من واحد ضيقه اكبر من رضاه

التنبيه هنا إلى أن جميع الكسور في العظام أو الجروح التي تصيب الإنسان يمكن معالجتها فيما عدا كسر الخواطر لا يمكن الشفاء منها مهما تقادم الزمن؛ حيث إن جرح اللسان أشد وقعًا من جرح السيف، ويذكرنا هذا بقول الشاعر:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى * وتبقى حزازات النفوس كما هيا
ثم يذكر الشاعر وحسب طبيعته أنه يرغب ويتمنى تقديم المعروف لكنه في هذا الزمن يصطدم بعقبة عدم تقدير هذا الأمر حتى من الأقرباء ناهيك عن البعيدين، ويزيد أنه عانى كثيرًا من ظلم الأقرباء وغدر الأصدقاء بل يؤكد أن أكثر ما يُعانيه طعنات الغدر في الظهر ممن يعتبرهم أصدقاء:
ابغي اقدم المعروف لكن وين القى جزا له
في زمان الجفا حتى اقرب الناس ما يتمعرفون
كم تحملت من ظلم اقربانا ومن غدر اصدقانا
والمصيبة ان رميات القفا ما تجي الا من صديق

وكأن اللخمي هنا يؤكد قول الشاعر:
وإخوان اتخذتهمُ دروعا * فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهمُ سهاما صائبات * فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا: قد سعينا كل سعي * فقلت نعم ولكن في فسادي
وقالوا: قد صفت منا قلوب * لقد صدقوا ولكن عن ودادي

ثم يختم شاعر الحكمة اللخمي قصيدته بشرح حاله مع بعض الأصدقاء الذين يعتبرون كل ما يقوم به الشاعر أو يقدمه لهم يقع بسببه الضرر عليهم حتى وإن حملهم على أكتافه، كل هذا بسبب الحقد الذي تكنه قلوبهم:
بعضهم يوم صافحته بكفي يقول اتعبت ايادي
واحتملته على كتفي وعود يقول اتعبتني

ختامًا: نسأل الله تعالى أن يصلح شأننا كله، ويحسن عملنا، ويكفينا شر الحاقدين والحاسدين.


كتبه /

علي بن ضيف الله بن خُرمان الزهراني

– الدمام

رمضان 1444 هـ الموافق ابريل 2023 م .

..............

نشر في صحيفة مكة الإلكترونية على الرابط :

https://www.makkahnews.sa/5346811.html


مشعال العيد

 بسم الله الرحمن الرحيم


تقول الشاعرة تماضر بنت عمرو المعروفة بالخنساء رحمها الله ضمن رثائها لأخيها صخر :
وإن صخراً لتأتم الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار
شبهته بالنار التي توقد رأس جبل في ظلام الليل ليراه سُراة الليل فيتجهون إليه .
وبهذه الطريقة كان الناس في منطقة الباحة قديماً يتناقلون خبر ظهور هلال شهر شوال  وبداية العيد بإشعال المشاعيل رؤوس الجبال.
تكلمت في مقال سابق عن استعدادات الناس لدخول شهر رمضان وطريقة صيامهم في زمن يغلب عليه الشقاء وضيق ذات اليد ، وهنا سأتحدث عن الاستعدادات للعيد في ذلك الزمن.
روي لنا من كبار السن الذين أدركناهم - رحمهم الله – أنهم وقبل ظهور الراديو كانوا يجمعون الأحطاب على مدى شهر رمضان ويزيد الاهتمام من بعد منتصف الشهر ويوضع في مكان معروف بأعلى قمة جبل في القرية خاصة ما يشرف على تهامة – هنا أتكلم عن قرى الشعف الواقعة في جبال السروات – وفي آخر يومين من الشهر يرص الحطب بطريقة معينة ويبنى ليرتفع عن سطح الأرض وقد يتجاوز ارتفاعه قامة الرجل ، ويقوم أبناء القرية بإقامة حراسات من شبابهم يتناوبون على حراسة المشعال حتى لا يحرق في غير وقته وربما يتسبب هذا في إفطار قرى بعيدة أخرى ويجتمع الرجال قبل غروب الشمس كلٌ منهم يأخذ إفطاره معه عند المشعال من قبل المغرب ليتراءون الهلال وعندما يتأكدون من ظهور هلال العيد يتخذ كبار القرية ومن بيده الرأي القرار فيتم إشعال المشعال ويحتفلون بالعرضة والرماية وتشاهد الجبال في جميع القرى منارة بالمشاعيل منهم من شاهد الهلال ومنهم من اعتمد على مشاعيل الآخرين وتعم الفرحة الجميع بانهائهم شهر الصوم واستعداداً للعيد هذا ما كان يفعله الناس قديما وربما يفوق هذا السبعين عاماً مع أن البعض لا يزال يحيي هذه العادة حاليا إحتفالاً ومتعه .
قال ابن خُرمان : أما مشاهداتنا وما كنا نفعله في طفولتنا فقد كان الراديو موجوداً ولم يعد للكبار اهتمام بالمشعال وأصبحت تلك مسؤولية الأطفال يبدأ جمعهم للحطب منذ منتصف شهر رمضان وربما قبل ذلك ، ويختارون الأشجار والنباتات سريعة الإشتعال مثل العرفج والنيم والشث والعثرب وغيرها، يقومون بتكويم أحطابهم التي يجمعونها في مكان متفق عليه داخل القرية فلم يعد الهدف إبلاغ القرى المجاورة بالعيد وإنما هدفهم الاحتفال فقط .. وكم تكون فرحة الأطفال كبيرة باجتماعهم وعرضتهم حول المشعال الذي لا يشعلونه إلا عند إعلان نهاية شهر رمضان وثبوت رؤية هلال شوال وربما شاركهم بعض الكبار تشجيعاً لهم .. وقد يحدث أن يكون لدى بعض الأطفال طراطيع وهم قلة خاصة من لهم أقارب في المدن سبق وأن أحضروها لهم،أما البقية فبعضهم يستخدم أعواد الكبريت بلفها في قصدير وتضرب بالأحجار فيكون لها أصوات قوية تسعد الأطفال وتشجعهم في احتفالاتهم والتي تستمر ما يقارب الساعة يعود الأطفال بعد إنطفاء النار إلى منازلهم ليخلدون للنوم استعداداً للعيد حتى أن بعضهم ينام دون عشاء بسبب التعب فهو طول اليوم السابق يعمل ويضاف إليه تعب الإحتفال .
ختاماً:هذه نبذة موجزة عن تجهيز المشعال والإحتفالات برؤية هلال شهر شوال والذي كانوا يطلقون عليه شهر ( الفطر الأول ) .
نسأل الله أن يديم علينا نعمه ويمنعها من الزوال.
 
 
دونه/
علي بن ضيف الله بن خُرمان الزهراني

الدمام
رمضان 1444 هـ الموافق ابريل 2023 م.
............................

نشر في صحيفة النهار السعودية على الرابط :
https://annahar-news.com/news/single/638