الأحد، 26 فبراير 2023

إلى رحمة الله يا عطية ..

 بسم الله الرحمن الرحيم


إلى رحمة الله يا ( عطية )

 

فوجئ جماهير العرضة الجنوبية وشعراؤها يوم الجمعة 24 فبراير2023م الموافق 3 شعبان 1444هـ بخبر وفاة الشاعر الكبير ( عطية بن صالح السلطاني الزهراني ) رغم علمهم بمعاناة الشاعر منذ عدة أسابيع سبقت وفاته ودخوله المستشفى ثم خروجه منه ، ولم تكن مفاجأتهم إلا بسبب ما للشاعر من حضور عند الجميع وما في قلوبهم له من التقدير..


الشاعر عطية السلطاني أو السوطاني كما يحلو للبعض تسميته منذ بداياته التي ربما تجاوزت الثلاثين عاماً وهو في عين الحدث فعندما يحضر حفلة تكون الأنظار متجهة إليه والأسماع تنصت لما  سيقوله هذا الشاعر الذي يغلب عليه طابع الاعتزاز بالنفس وتمتاز قصائده بالوضوح رغم أن محاورات شعر الشقر تتسم بالرمزية وما يسمى ( الخبو ) لكن عطية لم يكن يعجبه هذا الأمر ولا يبالي به فمع أي استفزاز من الشاعر المقابل تجده يتحول إلى الهجوم القوي اللاذع دون مبالاة بما قد يحدث جراء هذه المحاورة وكأنه ينطلق من قول حسان رضي الله عنه:

لساني صارم لا عيب فيه ** وبحري لا تكدره الدلاء

وهذا سبّب الكثير من الإختلاف بين جماهير العرضة فمنهم من يؤيده ويقف معه بل ويدعمه على صراحته ووضوحه ويطالبه بالمزيد بينما يقف مجموعة ضد هذا التوجه مطالبين بأن يتوقف مثل هذا الحوار المكشوف بين الشعراء ، وقد حاول عدد من الشعراء الجدد استفزاز الشاعر عطية لعلمهم أنه سيواجههم وبهذا تزداد شهرتهم وقد سبقهم في هذا الفعل شعراء منهم الشاعر بشار بن برد عندما هجا جرير بأشعار قائلاً: لو هجاني جرير لكنت أشعر الناس .

هكذا كان الشاعر عطية رحمه الله شجاعاً مقداماً واضحاً لا يقبل الذلة ، وكان في المقابل الشعراء الذين حاورهم وتوقع الجمهور أن بينهم عداوات ومناكفات أول من نعى الشاعر وحضر عدد منهم الصلاة والدفن , وكتب العديد منهم ومن جميع القبائل التعازي في وسائل التواصل الاجتماعي فقد شاهدنا تغريداتهم والحزن بادٍ في كلامهم ، بل أن بعضهم ألغوا ارتباطاتهم الشعرية لبعض المناسبات والبعض الآخر أجبرته الإرتباطات المسبقة والعلم المتأخر عن الوفاة أن يقول قصيدته في تلك المناسبة بطريقة رثائية لا فرائحية مذكرين بعظم المصاب .

قال ابن خُرمان:

نظراً لشدة محاورات الشاعر وقوتها وتتبع جماهير العرضة لها قل اهتمامهم بما قاله من القصائد الجميلة حيث أن له عدداً كبيراً من القصائد في الوطن و الفخر والترحيب والتسليم والحكم وغيرها والتي نتمنى أن يقوم أحد محبي الشاعر بتتبعها وتوثيقها في كتاب ، ولعلي في مقالي هذا أكتفي بهذه القصيدة التي قالها تشرح حال الناس في هذا الزمن المتأخر فيقول:

يا عرب كل عام يمرنا العيد ما كنه بعيد

الكراهية والبغضا وعدم التواصل والقطاعة

وانعدام المودة و الصلة و العوايد والعُرب

وانحطاط المبادئ والقيم والشيم في مجتمعنا

عاد ما في قلوب الناس رافه ولا فيهم ضمير

لا بسين الثياب البيض و قلوبنا فيها سوادي

ليت هندامنا الأبيض يستر سواد قلوبنا

مر يا عيد مثل العام ما كنك الا يوم عادي

غير يا عيد سامحنا وحنا نقول مسامحين

العرب صفهم مقسوم والعيد ما هو عيدنا

 

ختاماً:

لم يكن عطية السلطاني رحمه الله تعالى شاعراً عادياً منذ بدايته إلى نهايته , ولم تكن وفاته عادية عند الناس جميعاً وليس لنا جميعاً إلا الدعاء بأن يشمله الله برحمته وعفوه ويسكنه الجنة ووالدينا ومن له حقٌ علينا .

والحمد لله رب العالمين.

 

كتبه /

علي بن ضيف الله بن خُرمان الزهراني

الدمام

25 - 2 - 2023 م الموافق 4-8-1444 هـ.

.................




السبت، 25 فبراير 2023

يوم التأسيس 1727 م ..

بسم الله الرحمن الرحيم


 يوافق يوم 22 فبراير من كل عام يوم تأسيس المملكة العربية السعودية قبل ثلاثة قرون عندما قيض الله سبحانه وتعالى لهذه البلاد قائدًا فذًا وهو الإمام محمد بن سعود – رحمه الله – والذي استطاع بفضل حكمته وشجاعته وهمته العالية تأسيس الدولة السعودية، والتي انتشرت فيما بعد رغم الصعوبات وقسوة الحياة وتكالب الظروف ثم كانت نواة لشجرة كبيرة أثمرت وغطى ظلالها معظم مساحة الجزيرة العربية؛ حيث كان للملك عبد العزيز – طيب الله ثراه – الدور الأكبر فيما بعد لتوحيد شتات شعوب وقبائل الوطن حتى أصبحت بفضل الله تعالى تنعم بوحدة يعمها الأمن والأمان والأخوة والتكاتف بعد الحروب والسلب والنهب ثم توالى القادة من أبنائه حتى وصل الأمر إلى قائدنا ومليكنا سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- وولي عهده الشاب الطموح محمد بن سلمان -وفقه الله- الذي جعل للمملكة اسمًا بارزًا وعلامة فارقة على مستوى العالم يكتب عنها الكتاب، ويتداول أخبارها الإعلام ويتغنى بها الشعراء.

قال ابن خُرمان:
اطلعت على قصيدة فصحى بعنوان (السعودية العُظمى) لفتت انتباهي حيث إن شاعرها من شعراء الشقر الجنوبي بلغ شأواً كبيرًا في هذا المجال مما يجعلني أطلق عليه (
متنبي الشعر الجنوبي)؛ حيث لا يخلو مجلس فيه حديث عن الشعر الشعبي دون الاستشهاد بشعره، وله العديد من القصائد الوطنية على لون (الشقر) وهو الشاعر الدكتور عبد الواحد بن سعود الزهراني، وقصيدته الوطنية هذه بلغت (21) بيتًا بدأها بكلمة (قرن) ثم أضاف (قرنان) من الزمن، وهو تعداد سنوات عمر هذه الدولة المباركة، ولعل القرن المقصود هو قرن الاستقرار والرخاء منذ توحيد الملك عبد العزيز لهذا الكيان والقرنان الآخران هما زمن المعاناة والحروب، ومع هذا وخلال القرون الثلاثة كان الوطن كالشمس لا يخبو بريقه وبنور الله يضيء، بل إنه راسخ في أرض هذه البلاد يعيش في شموخ فيقول:

قرنٌ و قرنان مرت أيها البلد ** وأنت شمسٌ بنور الله تتقد
قرنٌ وقرنان مرت والشموخ هنا ** مؤبدٌ راسخٌ في الأرض مطرد

ثم ينتقل بنا الشاعر إلى إيضاح بداية التأسيس التي كانت من الدرعية، تلك البلدة الصغيرة التي كانت منبع الخير والتي نفضت عنها وعن الوطن كل مالا يفيد مستحضرًا قول الله تعالى في سورة الرعد (فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) (الرعد: 17)، وكل ما حدث كان بفضل الله ثم بفضل القائد الشجاع العابد، والذي عزمه كعزم الأسد صاحب الهمة العالية، ومعه الأبطال من أبناء الجزيرة أجداد المعاصرين وأحفاد الذين فتحوا البلاد ونشروا الدين بين العباد لا تهمهم الصعاب في طاعة قائدهم الذي لو قال لهم اصعدوا الفضاء لفعلوا؛ وكأن الشاعر يستحضر قول الأنصار -رضي الله عنهم- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر لخُضناه معك، ما تَخلَّف مِنّا رجل واحد، وما نَكره أنْ تَلقى بنا عَدوّنا غدًا، إنّا لَصُبرٌ عند الحرب، صُدقٌ عند اللِّقاء، لعلَّ الله يُريكَ فينا ما تَقرُّ به عَينُك، فَسِر بنا على بركة الله) فهؤلاء هم أحفاد أولئك، فيقول الشاعر:

ونبع درعية الخير التي انبثقت ** ينفض عنها غثاء السيل والزبد
إذ انبرى فارس في نبله ملك ** في دينه ناسك في عزمه أسد
وفي معيته الأبطال إذ بلغوا ** مكانة لم يصلها قبلهم أحد
ينال أقصى الطموح المستحيل بهم ** لو قال هيا اصعدوا للمشتري صعدوا

ثم يضيف الشاعر هنا إلى فضل هذا الإمام عليهم؛ فقد وحدهم الله على يديه بعد أن كانوا شتاتًا لا يهمهم سوى السلب والنهب والتقاتل فيما بينهم لكنهم استجابوا لدعوته للتوحد بقدرة الله تعالى؛ مما جعلهم يفتخرون باسم (آل سعود) الذي اتفق أحفادهم فيما بعد على تسمية الوطن باسم (المملكة العربية السعودية):

كانوا شتاتًا ولكن تحت رايته ** دعاهم الله للتوحيد فاتحدوا
تفاءلت باسمه نجدٌ فأسعدها ** وقومه إذ تسموا باسمه سعدوا

ويؤكد الشاعر على شجاعة وإقدام أولئك المؤسسين فلم تنحنِ لهم هامات، ولم تسبق أياديهم في الكرم يدًا فلا غرابة فهم أبناء وأحفاد من ضرب بهم المثل في الشجاعة والكرم والوفاء، وعلى ظهور خيلهم لا يعرفون الضعف والكلل والملل، وهكذا كانت صفات فرسان العرب، كانوا رغم قلتهم في العدد إلا أنهم يكثرون في عين عدوهم وسمعتهم تسبقهم حتى تدخل هيبتهم القلوب، وقد خلدت سيرهم آثار أفعالهم، وسجلها التاريخ وقول الشعراء والرواة:

فما انحنت هامة للصامدين هنا ** ولا علت فوق أيدي الأكرمين يد
على ظهور الجياد الشم تحسبهم ** مسخرين لهذا منذ أن ولدوا
كانوا سوادًا كثيرًا رغم قلتهم ** والحرب يحسمها الإقدام لا العدد
فالعيش ما تركوا والموت ما أخذوا ** والقول ما لفظوا والفعل ما اعتمدوا
أولئك الصيد بالأجساد إن رحلوا ** فإنهم في سجل المجد قد خلدوا

ثم ينتقل بنا الشاعر إلى العصر الحاضر والقيادة الحديثة مخاطبًا قائد الرؤية وطموح الشباب سمو ولي العهد مؤكدًا على الوفاء والسمع والطاعة؛ لتحقيق الطموح في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان قائد الجميع ووالدهم:

يا سيدي يا ولي العهد دمت لنا ** أنت الإمام ونحن العون والسند
ورؤية الخير يجري نهرها غدقًا ** ينمو على ضفتيها حاضر وغد
طموح والدكم أنت الجدير به ** فأنت ساعده والزند والعضد
سلمان قائدنا سلمان والدنا ** ولن يخون وقار الوالد الولد

ويشير الشاعر إلى ما ناله الوطن في هذا العصر من الهيبة والقوة والمنعة، والذي يمكن ملاحظته عندما تطلق مسمى (السعودية العُظمى) في أي مكان؛ حيث يخشاه العدو ويدخل الرعب في قلبه ويفرح به الصديق والمواطن، أما السعوديون فلهم الفخر والاعتزاز بهذا الوطن العظيم، ويعلمون أنه الروح وباقي الأرض جسد، فيستكمل الشاعر قصيدته بقوله:
قل السعودية العظمى وسوف ترى ** فرائص القوم منها كيف ترتعد
قل السعودية العظمى وحينئذ ** سينتشي بالنشيد البلبل الغرد
والدهر يمضي وهذا أنت يا وطني ** بالعز والفخر والأمجاد تنفرد
تحتاجك الأرض والدنيا بأجمعها ** فأنت كالروح والدنيا هي الجسد

قال ابن خُرمان:
نُهنئ جميع السعوديين قيادةً وشعبًا بهذه المناسبة العظيمة، وندعو الله أن يحفظ وطننا من شر كل ذي شر، وأن يديم التقدم والتوفيق.

كتبه /

علي بن ضيف الله بن خُرمان الزهراني

الدمام

19 فبراير 2023 م الموافق 28 رجب 1444 هـ.








...........



الأحد، 19 فبراير 2023

تأملات أدبية (امتاع النظر في شعر الشقر في قال ابن خرمان)

بسم الله الرحمن الرحيم

مقال آخر للاستاذ الفاضل جمعان عايض القرشي الزهراني من صفحته على الفيسبوك.


 تأملات أدبية

( امتاع النظر في شعر الشقر في قال ابن خرمان )
يتمتع الأديب علي بن ضيف الله بن خرمان بثقافة واسعة وإحاطة عميقة في مجال النقد الأدبي والتعليق البياني في موضوعات كتابه ( قال ابن خرمان ) وعلى سبيل المثال عندما تناول الحديث عن مقولة (مناني رابعة) ص ٥٩
بدأ بتعريف هذا المصطلح قائلا ( المناني أصلها منى ) واستشهد بقول الشاعر بن ميادة :
أبيت أمنِّي النفس من لاعج الهوى *** إذا كان برح الشوق يتلفها وجدا .ص ٥٩ .
واستشهد بقول العماد الأصفهاني
ولم أر شيئًا مثل دائرة المنى *** توسعها الآمال والعمر ضيق .الصفحة السابقة .
وهذا يدل على جهده البحثي عن الشواهد البيانية للمفردة اللغوية ثم الاستشهاد بها وتوظيفها لترسيخ فكرته وتقوية حجّته .
وقد أورد في حديثه عن ( مناني رابعة ) ص ٦٢ استشهادا بقول الشاعرين الشعبيين صالح بن خضران القرني ، والشاعر مزهر الثرباني الشهري في بدع ورد بينهما ،
قال بن خضران في بدعه :
يا سلامي عليكم عد نو( ن ) يريع الما منه *** والمزارع تزين بحبها ما بقي فالأرض خاطي .ص ٦٢
ويسرني إضافة( إلى جهد ابن خرمان ) بيانا لغويا لمفردات بعض هذا البيت الذي استشهد به ابن خرمان والرد عليه . يقول الشاعر القرني :
يا سلامي ( يبدأ بإلقاء السلام على سامعيه ) عِدّ ( عدد ) نَوٍ ا
لنّو هنا المقصود به الغيم المثقل بماء المطر الذي ( يريع ) يفيض ويزيد ويكثر الماء منه على الأرض .
وبالإنتقال إلى بيت الرد يقول الشاعر الشهري :
حن بني شهر ياجاهل وكل( ن ) ترى علم ( ن ) منه *** ذا مشينا ..... ص٦٣ الشاعر بدأ رده بالمفاخره بربعه بن شهر وحق له ذلك ، ويلاحظ في البدع والرد توظيف فنّ الشقر ( كما أشار بن خرمان ص ٦٣ ) للدلالة على تغير المعنى في البدع والرد المقابل في البيت الشعري . فقابل ( علمٍ مِنَه) في الرد( المَامِنَه) في البدع ، فحروف الميم والنون والهاء مشتركة في المبنى مختلفة في المعنى .
ممتع (قال ابن خرمان ) لمحبي الثقافة وعشّاق الحرف .

تأملات أدبية ( مع ابن خرمان في سوانحه )

بسم الله الرحمن الرحيم

أكرمني الأستاذ الأديب جمعان بن عايض القرشي الزهراني بهذا المقال في صفحته على الفيسبوك فله الشكر والتقدير.

 

تأملات أدبية


( مع ابن خرمان في سوانحه )
كتاب قال ابن خرمان ( مقالات في الأدب الشعبي ) يستعرض فيه مقالات نهج فيها على التحدّث بلغة أدبية عن أفكار أو مواقف أو لمحات في مختلف نواحي الحياة فيضع عنوانا ثم يثري ذلك العنوان بشروحات لغوية واستشهادات شعرية تضفي على ذلك العنوان هالات إحساسية دافئة ، و معانٍ وجدانية صافية ، على سبيل المثال : ماورد في كتابه ص ١٠٤ تحت عنوان
[ شيء يسير عن شاعر كبير ] تحدث فيه عن الشاعر الشعبي الكبير صالح بن محمد اللخمي الزهراني ( ألف عنه مؤلفا قيما بعنوان صالح اللخمي ، حياته ، شعره ) فبدأ باستشهاده :
الشعراء فاعلمن اربعه *** فشاعر يجري ولا يجرى معه .
ثم استشهد بقول الزهاوي عن الشعر :
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه *** فليس خليقا ان يقال له شعر .) ص ١٠٤ .
ثم شرح هذا البيت قائلا : (هذا البيت به حكمة بالغة فيما يتعلق بالشعر جميعه الفصيح والشعبي به ملخص الشعر ، فالشعر الذي لا يتمكن من الوجدان لا يستحق أن تطلق عليه صفة الشعر ) ص ١٠٥ .
واشاد بشعر اللخمي قائلا ( يتميز شعر اللخمي بحسن الصياغة وجزلة الألفاظ واستخراج المعني ، قال اللخمي :
الخيول الدهم قبلي تراكض ريتها
علموني من بنى ذا الجدار ومن دمك ) ص ١١٣
ويمضي في بقية سوانحه على هذا المنوال الإثرائي .
في نظري كتاب ( قال ابن خرمان ) كنز أدبي ينمّي الذائقة الشعرية ، ويثري الخلفية الثقافية ، ويعمق الإحساس بجمال المعاني الجزلة ، وقوة النظم الشعري .

الخميس، 16 فبراير 2023

الدرمحي والصديق ..

بسم الله الرحمن الرحيم


 قال ابن خُرمان:

قلما يجد الإنسان صديقًا دون عيوب أو أخطاء بل نستطيع القول إنه لا وجود لهذا الصديق فكلنا خطاءون، وتمر الظروف على الإنسان يفقد معها التعقل وتتغيَّر نفسيته ربما دون قصد سرعان ما يعود بعدها إلى الاعتذار عن سوء تصرفه خاصة مع أصدقائه، وقد تطرق الشعراء قديمًا وحديثًا لهذا الأمر؛ فمنهم من تشدد في ذلك ونصح بمقاطعة القريب ناهيك عن البعيد كقول الأضبط بن قريع السعدي:
وصل حبال البعيد إن وصل الــــــحبل واقص القريب إن قطعه
إلا أن أغلب الشعراء كانوا يدعون إلى التسامح والتغاضي عن زلة الصديق فمما يروى للإمام
علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قوله:
ألبس أخاك على عيوبه * واستر وغط على ذنوبه
كما يروى
للأصمعي قوله:
ولا تقطع أخا لك عند ذنب * فإن الذنب يغفره الكريم
ومما ينسب
لكثير عزة:
ومن لا يغمض عينه عن صديقه * وعن بعض ما فيه يمت وهو عـــــاتب
ومن يتتبع جاهدًا كل عثــــــــرة * يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب

وللشعر الشعبي دوره في النصح للتعامل مع الصديق؛ حيث إن هناك عددًا من القصائد قيلت حول هذا الموضوع منها قول الشاعر هلال الديحاني:

لا جاتك الزله من اللي توده * فكّر بحفظ الود واعرض عن الرد
وإذا اعتذر عن زلته لا ترده * بحر العلاقة دايم الجزر والمد
حبل المواصل بين الأقراب مده * ارخه لیا شدوه والیا ارتخی شد
وانس الخطا حتى تدوم الموده * من يذكر الهفوات ما يحفظ الود

ولم يكن شعراء الشقر أقل حظًا من الآخرين؛ فقصائدهم خاصة الزمل الطويل تمتلئ بالحكم والنصائح حول تعامل الناس مع بعضهم فمنها ما تطرق لحقوق الجار وحقوق الأبناء وحقوق الوالدين والأقارب وغيرها، وكان للتعامل مع الأصدقاء وحسن اختيارهم والتغاضي عن زلاتهم نصيب الأسد من قصائد كبار الشعراء؛ فهذا الشاعر الكبير أحمد بن علي الدرمحي الزهراني يقول في إحدى قصائده:

قال أبو خالد الدنيا سعة والقصافة في القلوب
إن غدينا ندور صاحب لا يزل ولا يعاتب
مثل من في ظلام الليل يبحث على ريشة غراب
سود الله وجوه اللي جفاهم على دنيا دنية
ما درى أن المقابر واحدة للغني وللفقير
لا تعاتب صديقك لجل زلة لسان وما يشابه
كل أبونا بشر نخطي ونقدي ولله الكمال
والصديق الذي تطلع معاريفه أكثر من عيوبه
توجه بالرضا لا تلحقه لا عتاب ولا حقوق
واعلم أن الجروح أنواع ما كل جرح له دوايا
جرح الأبدان ما هو مثل نزف القلوب الداخلي

قال ابن خُرمان:
بدأ الشاعر قصيدته بأمر نعرفه جميعنا إلا أننا ننساه في كثير من الأحيان، وهو أن الدنيا بأرضها وسمائها فسيحة تتحمل كل ما يجري فوقها أما الضيق والكدر ففي قلوب البشر، وشاعرنا هنا يذكرنا بقصيدة بشار بن برد التي ورد فيها:

إذا كنت في كل الأمور معاتبًا * صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه * مقارف ذنب مرةً ومجانبه

وأستطيع القول أن شاعرنا الدرمحي قد أجاد الوصف والإيضاح عمن يبحث عن هذا الصديق الذي لا يخطئ كمن يبحث عن ريشة غراب واحدة في ليل حالك الظلم، وعلينا أن نتخيل هذه الصورة:
إن غدينا ندور صاحب لا يزل ولا يعاتب
مثل من في ظلام الليل يبحث على ريشة غراب

ثم ينتقل الشاعر الدرمحي إلى تشديد الملام على من كانت مقاطعته لصديقه بسبب أطماع الدنيا، والتي نهايتها الموت والانتقال لقبور متشابهة لا تفرقة فيها بين غني وفقير:
سود الله وجوه اللي جفاهم على دنيا دنية
ما درى أن المقابر واحدة للغني وللفقير

وينصح الشاعر بعدم معاتبة الصديق بسبب زلة لسان قد يكون سببها ظرفيًا، وربما لم يكن يقصد الإساءة ويؤكد الشاعر أننا جميعًا معرضون للخطأ ولا كامل إلا الله سبحانه وحقًا ما قاله الشاعر:
لا تعاتب صديقك لجل زلة لسان وما يشابه
كل أبونا بشر نخطي ونقدي ولله الكمال
والصديق الذي تطلع معاريفه أكثر من عيوبه
توجه بالرضا لا تلحقه لا عتاب ولا حقوق

وهنا يعيدنا الدرمحي لتذكر بعض أبيات بشار بن برد في القصيدة المشهورة:
إذا أنت لم تشربْ مرارًا على القذى * ظمئْتَ وأيُّ الناس تصفو مشاربه
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلُّها * كفى المرء نبلا أن تُعدَّ معائبه

ويختم الشاعر قصيدته بأبيات غاية في الجمال تنبه المستمع إلى أن الألم النفسي وجرح الخواطر أكبر بكثير من جرح الأبدان؛ حيث إن جرح البدن يمكن معالجته أما جرح النفوس؛ فليس من السهولة علاجه فهو النزيف الداخلي المستمر، وقد قال الشاعر فاضل أصفر:

وأصعبُ الجرحِ جرحُ الروحِ أحسَبُهُ * وأهونُ الجرحِ سَيَّالٌ ببعضِ دمِ

أما الدرمحي فختم قصيدته بقوله:

واعلم أن الجروح أنواع ما كل جرح له دوايا
جرح الأبدان ما هو مثل نزف القلوب الداخلي

قال ابن خُرمان:
حقًا قول الشاعر فجرح القلوب هو الأشد ألمًا، وعلينا الصبر والتغاضي عن زلات الصديق.
والله ولي التوفيق.

– الدمام
الإثنين 23-1-2023 الموافق: 1-7-1444هـ

..............

نشرت في صحيفة مكة الإلكترونية على الرابط :

https://www.makkahnews.sa/5331948.html