نقص المناعة عند ابن حوقان
يمتلك كل إنسان في حياته العديد من الأصدقاء منذ الطفولة والمراحل المبكرة من حياته ثم مراحل الدراسة والعمل وغيرها فقد يعقد الانسان صداقات مع أشخاص قابلهم في نوادي أو مقاه أو أثناء السفر يختفي عدد كبير منهم ويبقى منهم من يراه الشخص حقيقاً بتلك الصداقة ، وقد أتى الشعراء بقصائد عدة في الشعر الفصيح والشعبي عن الصديق وحسن اختياره كما تحدثت كتب الأدب عن الصداقة والأصدقاء .
يقول الشافعي رحمه في نوع الأصدقاء الذين يتمناهم :
أحب من الإخوان كل مواتي ... وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كل أمر أريده ..... ويحفظني حيا وبعد مماتي
وقال ابن خالويه أنه ينبغي ألا يثق الانسان بكل من يدعي الصداقة بل يختار أهل العقول والحياء :
إذا ما كنت متخذا خليلا .... فلا تثقن بكل أخي إخاء
فإن خيرت بينهم فألصق .... بأهل العقل منهم والحياء
وهذه التوصية من ابن خالويه تتفق مع الأبيات التالية التي يوضح قائلها الفرق بين الكريم واللئيم في مراعاة الأصدقاء فالكريم يظهر الحسن ويخفي القبيح بينما العكس يفعله اللئيم :
وترى الكريم إذا تصرَّم وصله....... يخفي القبيح ويُظهر الإحسانا
وترى اللئيم إذا تقضي وصله....... يُخفي الجميل ويُظهر البهتانا
أما أسامة بن منقذ فينصح بالعيش وحيداً مالم تجد صديقاً ورعاً طيباً ثم يحذر من مصاحبة السفيه التي تجلب الندامة ثم يشبه الأصدقاء بالأشجار بعضها تجنى منه الثمار والبعض لا يصلح إلا وقوداً للنار :
عش واحدا أو فالتمس لك صاحبا .... في محتدى ورع وطيب نجار
واحذر مصاحبة السفيه فشر ما ..... جلب الندامة صحبة الأشرار
والناس كالأشجار هذي يجتنى ..... منها الثمار وذي وقود النار
قال ابن خُرمان:
هناك الكثير من القصائد في الشعر العربي عن الأصدقاء واختيارهم والتحذير من أصحاب السوء نكتفي بما ذكرنا . وتطرق شعراء النظم في الشعر الشعبي النبطي وشعراء الشقر الجنوبي للصداقة والأصدقاء في قصائدهم نضع هذا المثال من شعر النظم للشاعر فهد الجبر الذي يوضح صعوبة الحصول على الصديق الصدوق ثم يوضح أنواع الصديق فيقول :
يا صعب و الله ما تحصل لك في ها الدنيا صديق
تزرع كثيره للاسف يا قل ما تحصد ثمر
بعض العرب صداقته من و ين ما جيته يطيق
اليا نصيته فز فيك و قال تامرنى امر
لا قال كلمة تمها و إلا اعتذر عذر يليق
اليا و قف و قفة بطل و ان هد هدات النمر
وبعض العرب صداقته ما هى علي طول الطريق
يقطع صداقة و احد تقول شايل لك جمر
أما شعر العرضة الجنوبية شعر الشقر فيوجد العديد من القصائد لشعراء كبار لعل أشهرها قصيدة ( الصديق ) للشاعر الكبير صالح بن محمد اللخمي الزهراني التي بدأها بقوله رغم خسائر الانسان الكثيرة في حياته إلا أن أكبر خسارة فقد الصديق الصدوق الذي تجده في كل أحوالك رخاءً وشدة :
الخسائر كثيرة واكثر أنواعها فقد الصديق
الصديق الذي تدعي وتلقاه في يسر(ن) وشده
ثم يختمها بالنصيحة بحسن اختيار الأصدقاء فيقول :
ادرس أحوال من وده يسايرك في خطوة مدية
إن لقيتاه ونعم يرفع الراس وإلا جنّبه
قال ابن خُرمان :
نأتي للشاعر الكبير محمد بن حوقان المالكي ، وقبل أن نبدأ في قصيدته وشرحها ينبغي أن نذكر نبذة عنه فهو من أسرة شعرية فوالده الشاعر الكبير أحمد بن زربان المالكي الملقب ب( حوقان ) رحمه الله وكان من كبار شعراء العرضة الجنوبية شارك في كثير من الحفلات في بني مالك و منطقة الباحة وغيرها من المناطق وكان له هيبة شعرية عند الشعراء ، وعاش محمد في كنف والده ونبغ شعرياً في حياة أبيه ثم تولى زمام الشعر بعد وفاته ، شارك مثل أبيه في حفلات عدة في مختلف مدن ومناطق المملكة وحاور العديد من الشعراء خاصة شعراء زهران الكبار و له عدة قصائد في نقد الأحوال غير اللائقة التي يراها في المجتمع ويعمل على تصحيحها نتطرق منها إلى قصيدته التالية :
يا من اسكنتك أعلى منزلة صدق يسكنها صديق
واسقيتك من جداول قلبي الود وإخلاص النوايا
ومنحتك مساحة شاسعة م الوريد الى الوريد
آثرك خنجر(ن) ما تهوي إلا على قتل المشاعر
وآثرك فارس(ن) ما تهجم إلا تعرضني شَباك
كم قالوا لي صديق الزيف يشبه مرض نقص المناعة
تنقله في خلايا الدم ويفتح لك أبواب الندم
الصداقة مع ذا العالم أما رياء وإلا تجارة
غيرها ثامن السبع العجايب ورابع مستحيل
و اغلبها مثل ما بين المدخن وما بين السجارة
بعدما ينتهي منها يعود يطاها بقدمه
بدأها الشاعر بمناداة ذلك الصديق بحسرة مذكراً له أنه أسكنه في أعلى منزلة من قلبه يسكنها صديق من قبل ثم يذكره بأنه أسقاه المحبة والأخلاص من صافي الود بل ومنحه مساحة شاسعة .. ماهي تلك المساحة وأين موقعها ؟ .. إنها من الوريد إلى الوريد !! .. وكم هي شاسعة حقاً فهي مساحة الحياة.
ماذا بعد كل هذا ؟! يذكرنا الشاعر بقول الشاعر المجاشعي:
وإخـوانٍ حـسـبـتـهـم دروعاً ..... فـكـانـوهـا ولكـن للأعـادي
وخـلتـهـم سـهـامـاً صـائبـاتٍ ..... فـكـانـوهـا ولكن في فؤادي
وقالوا: قد صفت منا قلوب ..... لقد صدقوا ولكن من ودادي
فيقول ابن حوقان :
المفاجأة وجدتك خنجر تقتل المشاعر وليس أسوأ من قتل المشاعر فليس لذلك علاج ثم وجدتك فارساً هجومك علي لا معي :
آثرك خنجر(ن) ما تهوي إلا على قتل المشاعر
وآثرك فارس(ن) ما تهجم إلا تعرضني شَباك
ثم يضيف شاعرنا تشبيه جميل وبليغ فصديق الزيف شبهه بمرض نقص المناعة الذي ينتقل في الدم ثم يعقبه الندم طول حياة الانسان :
كم قالوا لي صديق الزيف يشبه مرض نقص المناعة
تنقله في خلايا الدم ويفتح لك أبواب الندم
ويضيف أن الصداقة هذه الأيام ليست صداقة محبة ووفاء ولكنها إما أن تكون رياء لذلك الشخص الذي يتقرب منه الآخرون أو تجارة يستفيد منها وتنتهي بعد أن ينتهي كسبه :
الصداقة مع ذا العالم أما رياء وإلا تجارة
غيرها ثامن السبع العجايب ورابع مستحيل
ولعل شاعرنا هنا يعيدنا لقول المتنبي :
إذا ما الناس جربهم لبيبٌ ...... فإني قد أكلتهمُ وذاقا
فلم أر ودّهم الا خداعا ...... ولم أرَ دينهم الا نفاقا !
وفي النهاية يأتي الشاعر ابن حوقان بتشبيه آخر للصداقة المزيفة والتي تبنى على أطماع حيث شبهها بالسيجارة التي يضعها المدخن في فمه عشقا وإدماناً ثم يرميها تحت أقدامه بعد أن ينتهي منها فيقول :
و اغلبها مثل ما بين المدخن وما بين السجارة
بعدما ينتهي منها يعود يطاها بقدمه
قال ابن خُرمان :
نقول لشاعرنا الكبير أين نجد وفاءً شبيها بوفاء عبدالحميد الكاتب للخليفة مروان بن محمد عندما طلب منه مروان أن ينجو بنفسه ويلتحق بالعباسيين لعله يجد النجاة فرفض إخلاصاً ثم قال :
أسر وفاءً ثم أظهر غدرةً ....... فمن لي بعذرٍ يوسع الناس ظاهره
فالعربي الأصيل لا يغدر ولا يخون مهما كان الخطر عليه .
ختاماً :
هذا غيض من فيض في الموضوع الذي تطرق له الشاعر ابن حوقان أتمنى أن ينال رضاكم .
والله الموفق .
كتبه /
علي بن ضيف الله بن خُرمان الزهراني
الدمام
جمادى الأولى 1445 هـ الموافق ديسمبر 2023 م .
..................
نشر في صحيفة النهار السعودية على الرابط :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق