الاثنين، 22 يناير 2024

قال ابن خُرمان عن بيت الدار


 

قال ابن خُرمان عن بيت الدار

 

روي للشاعر قيس بن الملوح قوله:

أمر على الديار ديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدار

وما حب الديار شغفن قلبي .... ولكن حب من سكن الديار

يكثر وصف الشعراء للديار ويأخذهم الحنين إلى مرابع الصبا ، وعندما يمر أحدهم بديار الأحبة أو أماكن اللقاءات في سابق العهد تفيض المشاعر وتهيج الذكريات وتجيش الأفكار فتنبع أجمل الأبيات ، وقد تغنى العديد منهم بهذا وكانت القصائد لكبار الشعراء تبدأ بالتذكر وتتبع التذكريات فهذا أمرؤ القيس يبدأ معلقته بالوقوف على تلك الأطلال بالقول :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل .... بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم .... يقولون لا تهلك أسىً وتجمل

وإن شفائي عبرة مهراقة .... فهل عند رسم دارس من معول

ويأتي الشاعر طرفة بن العبد في معلقته بما يشبه هذا فيقول عند مشاهدته آثار ديار محبوبته :

لخولة أطلال ببرقة ثهمد .... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم .... يقولون لا تهلك أسىً وتجلد

أما جرير فعندما تذكر جبل الريان الذي كان أيام الشباب يقابل فيه حبيبته والتي أطلق عليها أم عمرو وتذكر المنازل التي كان يعيش فيها قال أبياته الجميلة :

ياحبذا جبل الريان من جبل .... وحبذا ساكن الريان من كانا

حي المنازل إذ لا نبتغي بدلاً ....  بالدار داراً وبالجيران جيرانا

بينما شدة الحب جعلت ابن خفاجه الأندلسي يقبل رسم الدار حباً لأهلها فيقول :

وقبلت رسم الدار حباً لأهلها .... ومن لم يجد إلا صعيداً تيمما

قال ابن خُرمان :

وفي زمننا هذا ومع التطور والحضارة في بلادنا والنقلات الكبيرة في الحياة وابتعاد أغلب الناس عن أماكن طفولتهم وشبابهم حيث تنقلوا في أرجاء الأرض لطلب الرزق وبناء حياة جديدة في أصقاع مختلفة ، كما قام الجميع بالانتقال إلى مساكن جديدة بالبناء الحديث أكثر اتساعاً وأجمل منظراً من المنازل السابقة التي كان يسكنها آباؤهم وأجدادهم والمبنية من الحجر والمسقوفة بالخشب مع أن البعض حافظ على المنازل القديمة وربما قام بترميمها لتكون متنفساً له يستقبل فيها بعض الزوار وقام آخرون بدمج المباني القديمة بالحديثة لكن الحنين إلى حياة الطفولة في تلك المنازل القديمة تهيج الذكريات الجميلة ولمة العائلة الجميلة وتماسكهم ولا يستطيع أحد أكثر من الشاعر أن يرسم صور تلك الذكريات والعواطف ، وقد وصلتني في مقطع مرئي عبر وسائل التواصل قصيدة جميلة جداً حازت على إعجابي وأثارت مشاعري فكأن الشاعر يتحدث نيابة عني وعن جيلي بأكمله إنها قصيدة ( بيت الدار ) والتي سأستميح الشاعر الأديب الإعلامي علي بن هجاد الزهراني عذراً في هذه القراءة الإنطباعية للقصيدة :

يذكر الشاعر في بداية المقطع أنه مر على بيتهم القديم والذي يقع في قرية الحميدان ببلاد زهران بمنطقة الباحة وهيجته الذكريات التي عاشها في هذا المنزل الذي تحتويه منازل القرية ويبدأ بالتسليم على البيت وكأنه يخاطب حياة لا جماد ولم لا ؟! ففي أركان هذا البيت تاريخ لا يزول ولا تمحيه الأيام مهما تقادم الزمن وأهمله الجيل الحالي ولعلي هنا أطلب من الشاعر الكتابة مستقبلاً بأسلوبة الأخاذ عن ذكرياته :

سلام يابيت سكن في ركونه

تاريخ ما تمحيه دورات الأيام

تاريخ يبقى ما تغير متونه

مهما تقادم به زمانه والاعوام

 

ويضيف الشاعر أنه وجد في هذا البيت القديم أنفاس الجد لا تزال موجودة بل أنها تعطرالمكان كما كان يشعر بها في حياة الجد ، ويضيف كذلك أن أحاسيس الوالد ومشاعره وماكانوا مع عائلتهم يرسمونه من أحلام لمستقبل عائلتهم لا تزال باقية ، ثم ينتقل إلى الحديث عن من فقده من عائلتهم الصغيرة فالجدة الحنونة التي كانت وكعادة الجدات ملجأ الأطفال ومركز الدفاع عنهم حين شقاوتهم ، أما الأم فكانت العطوف الملهمة ولم يسترسل ـ وليته فعل ـ في ذكر ما كانت الأمهات يعانين فهن العاملات الشاقيات المسؤولات عن كل ما يهم العائلة والحلال ( رحم الله الجميع ) ، ثم ينتقل الشاعر بعد ذلك إلى الإشارة أن جميع من في القرية أقارب ليس منهم الغريب فهم أخوال وأعمام وأسرة واحدة وهذا مدعاة للألفة والتكاتف والمحبة :

انفاس جدي عطرها في سكونه

واحساس ابوي ومارسمنا من أحلام

والجدة اللي من صفتها حنونه

والام كانت نبع من عطف والهام

والقرية مافيها احد ينكرونه

اللي سكنها اهل واخوال واعمام

 

ويعود الشاعر مرهف الإحساس إلى مخاطبة الجماد الحي الذي يقف في ظل الحصن الشامخ الذي كان لأهل القرية مركز الحماية والمستودع الذي يخزنون فيه كل ما يهمهم ، ويشبه البيت بنون الحصن الذي يرى به وعليه حمايته ولهذا لم يتأثر رغم ما أصابه به الزمن فهو الشامخ شموخ الحصن وشموخ من كان فيه.. ويواصل الشاعر الذكريات عندما كان ذلك البيت متسيداً لكثرة الرواد والضيوف مما جعل ساكنيه لا يقفلون له باباً:

يابيت في ظل الحصن مثل نونه

واقف على ماجاك من جور الاثلام

الله على وقت تسيدت كونه

كنت الحياة وكنت ملفى للاقوام

وبابك المفتوح ما يغلقونه

ومجلسك مدهال للضيف واكرام

 

ويزيدنا الشاعر بعض الإيضاحات لما هيج شجونه في هذا البيت حيث الزافر وهو العمود الخشبي في منتصف المجلس والذي يحمل ثقل السواري حيث توضع عليها أخشاب السقف ، هذا الزافر به النقوش البديعة التي كانت تنال إعجاب الضيوف وفي هذه النقوش نقش تاريخ ميلاد الشاعر كما أشار وسيبقى هذا التاريخ ما بقي هذا الزافر ، ثم يضيف الشاعر لمحة عن تربيتهم في هذا البيت التي جمعت الحزم والمرونة وكانت التربية تربية على مكارم الأخلاق والدين والوفاء والكرم وهكذا كان الآباء لا يرضون لأبنائهم إلا التفوق والصدارة ( وهذا ما وجدناه في الشاعر وإخوانه ) :

والزافر المنقوش تحمل فنونه

تاريخ ميلادي بلا حبر وأرقام

هنا تربينا بحزم ومرونة

على الوفا والطيب واخلاق الإسلام

 

ويختم الشاعر قصيدته مخاطباً ذلك البيت أن مروره كان لاستحضار الماضي الجميل البسيط الذي كانت تسوده الألفة و المحبة والوئام ، ومذكراً لأجيالنا بماضينا وملهماً الأجيال التي لم تر ذلك :

واليوم مريتك ادور مؤونة

من ذكريات الماضي الحاضر الهام

ذكرى البساطة في حياة مصونة

وعيشة مضمونها ود ووئام

 

ختاماً : نشكر الشاعر على هذا القصيدة التي أعادتنا لماضٍ افتقدناه رغم التطور والحضارة ، وليس لنا إلا الدعاء إلى الله أن يرحم والدينا وأجدادنا ومن سبقنا وأن يعوضهم عن تعبهم وشقائهم بنعيم دائم في الجنة . آمين .

 

كتبه/

علي بن ضيف الله بن خُرمان الزهراني

الدمام

رجب 1445 هـ الموافق يناير 2024 م .

........

نشر في صحيفة النهار السعودية على الرابط :

https://www.annahar-news.com/news/single/6164


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق