زافر العقبة
قبل أن نبدأ الحديث عن موضوعنا في
هذا المقال لعل من المفيد شرح مفردتي الزافر والعقبة والمقصود بهما ، فالزافر يطلق
في لغة المنطقة على العمود الذي يستند عليه سقف المنزل عندما كان البناء من الحجر
والأسقف من الخشب فيوضع أقوى الأخشاب وأصلبها عموداً يطلق عليه الزافر لتوضع عليه
السواري ثم تفرد عليها أخشاب السقف ، أما العقبة فهي الطريق الصعبة الملتوية في
الجبال تصل بين السراة وتهامة وكانت العقاب منتشرة في جبال السروات بعضها يمكن
استخدامها من قبل الانسان والحيوان وبعضها لا يتمكن إلا المعتاد من الناس طرقها (
ونحمد الله الذي يسر هذه العقاب في عصر الدولة السعودية المباركة أدامها الله حيث
قامت بفتح طرق السيارات وسفلتتها حتى أصبح التنقل بين السراة وتهامة لا يتجاوز جزء
من الساعة بعد أن كان يستغرق يومًا أو أكثر)،
ويسمى النزول إلى تهامة ( غورًا ) والصعود منها إلى السراة ( جلوسًا )
فيقال غار إلى تهامة وجلس إلى السراة .
قال ابن خُرمان : كان ارتياد هذه
العقاب قبل السيارات في غاية الصعوبة يعاني منها الجميع خاصة وأن البعض يضطر
للنزول إلى تهامة والصعود منها باستمرار من حيث احتياجهم للأسواق في الجهتين وهناك
من لديه بيوت ومزارع في السراة وفي تهامة فينال منهم التعب والجوع والظمأ، وقد قيض
الله في أسفل هذه العقاب بيوتًا بها رجال يتوارثون الكرم وتقديم الطعام والماء
والعون لمرتادي هذه الطرق والجبال الصعبة بل لم يكن يهنأ لأحدهم بال عندما يمر
اليوم دون أن يكرم ضيوفاً أو يعين محتاجاً أو يفرج كربة مكروب حتى استحقوا أن يطلق
على أحدهم لقب ( زافر العقبة ) أي العمود الذي يسند مرتادي هذه العقاب ويكرمهم
بالأكل والشرب والمبيت ويقال في الأمثال الشعبية في زهران ( ما يسكن بجانب الطريق
بخيل، ما يسكن إلا الجيد ) وورد في أقوال العرب عن إكرام الضيف شعر كثير منها قول
حسان رضي الله عنه :
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
وهنا أستطيع القول أن من نتحدث عنهم
في هذا المقال تجاوزوا قول حسان رضي الله عنه بأنهم يبحثون عن السواد المقبل
ويستبشرون بقدومهم، وفي هذه العجالة سأذكر بعض هذه البيوت وهؤلاء الرجال حيث قمت
بالبحث في بعض الكتب القليلة المتوفرة و في ثنايا الانترنت والذي لم أجد فيه ما
يفيدني كثيراً لكن عدم الحصول على الأمر كله أو جله لا يمنعنا من حفظ القلة ونشره
لعل من يأتي مستقبلاً يبحث و يحفظ لنا هذا الإرث الجميل .
وجدت في كتاب من أعلام زهران جمع
وتحقيق الأستاذ قينان بن جمعان الزهراني رحمه الله معلومات قيمة عن بعض من أطلق
عليهم هذا اللقب ( زافر العقبة ) وهما أحمد الدامر و حسن الساهر , وسأقتبس بتصرف مما
كتبه المؤلف عن هذين العلمين إضافةً إلى ما وجدته أثناء بحثي ثم أنتقل إلى غيرهما.
1- أحمد الدامر([1]) : وهو أحمد بن يحيى بن علي الخزمري الزهراني الملقب بالدامر رحمه
الله المتوفي في أواخر العقد السادس أو بداية العقد السابع من القرن الرابع عشر
الهجري، وهو من قرية الفهيدة التابعة لقرية الدركة من الجماجم ، وهي إحدى قرى وادي
أشحط التابع لقبيلة بالخزمر في تهامة ، ويقع منزله بجوار عقبتي كدادة التي تصل بين
قرية الجماجم وتهامة والعقبة الثانية عقبة بطيلة التي تصل بين قرية بطيلة وتهامة .
كان منزله رحمه الله رحمه الله أشبه بخلية النحل لا يبعد عن العقبة سوى أمتار
قليلة بجواره حصن مرتفع يشاهده القاصدون من مسافات بعيدة ، و مما يروى عنه أنه رغم
جدب الزمان فقد وسع الله عليه رزقه فكانت المحاصيل الزراعية في مزارعه وفيرة ولعل
هذا بسبب دعاء المحتاجين ومن يرتاد منزله فلم يكن إكرامه للناس من باب المباهاة
وإنما كان يبتغي مرضاة الله تعالى ( كما نحسبه والله حسيبه ). كان ممن أرتاد منزله
الشاعر محمد بن ثامرة والشاعر علي الغبيشي وقد ذكراه في القصيدة التالية ، البدع
من ابن ثامرة:
يا سلامي يا اهل
أبو ركبة في الميدان خل المفتلي ([2])
حكم البيطار في
صنعته ما فيه لا خلة ولا تهمان ([3])
من يصيبه حزّة المكربة
يزفر ويتمظظ ألّ له ([4])
الرد من الغبيشي :
يوم رحنا عند عيدان
كان قبل تالوهلة فتّ لي ([5])
هو ويا الطاوي وربي
جعلهم مركز(ن) للحجز والتهمان([6])
واحمد الدامر عسى
فدوته ما اهل الوجوه المظللة ([7])
ومما قيل فيه أيضاً
هذه القصيدة للشاعر محمد بن حسن المالحي :
سلام يا شيخ (ن)
ظلمه المسمي يوم سما
يكون سموك الخضر
والسعد والياس يا أحمد
ما حد يسمي الدامر
الا الذي يدمر قبيلة
و أما أنت ما هلا
عمرت القبايل والعقاب
مما يروى عنه أنه
كان يكرم مخلوقات الله من الطير والجراد وغيرها فيمنع أهله من حماية مزارعه منها
قائلاً ( أنها من مخلوقات الله وتأكل من رزقه ) . وروي عنه أيضاً أنه كان يبقي أحد
أهله في البيت باستمرار حتى لا يأتي عابر سبيل يحتاج أكلاً أو ماءً فلا يجد أحداً
يكرمه . ونختم بما تيسر من القصائد التي قيلت عنه فقد مدحه أحد الشعراء بقوله :
كذاب يا من بغى حجة
مع الساهر
وحجته والزيارة عند
مصراعه
ويقصد الشاعر هنا
أن خصمه ومن يحاول التقليل من شأنه سيهزم بسبب حجة الساهر القوية والتي يعبر عنها
كثرة ما في بيته وحوله من الضيوف. والقصيدة التالية توضح مدى حب أهل قريته له
وتفانيهم في مساعدته عن الحاجة حيث نزلت أمطار غزيرة وجرف السيل إحدى مزارعه
فتنادوا أهل قريته والقرى المجاورة وأعادوا إعمارها وقال الشاعر:
ندرك أعمارنا في
حشمة الساهر
لو دعانا للعدو
بينقول ابشر
ومعنى قول الشاعر أنهم سيقدمون أنفسهم فداءً تضحية من أجل الساهر حتى لو كان نداؤه لمقابلة الأعداء .
3- سعيد الدندني ([9]): وهو سعيد بن صغير بن يحيى الكناني الزهراني الملقب الدندني ، وقد
ورث لقب زافر العقبة عن والده رحمهم الله جميعاً حيث كان بيتهم في وادي ثمران
بتهامة بالحكم أسفل عقبة ( تبرنة ) في ملتقى واديين ويسمى بيتهم الحصون و الركيب
(المزرعة) تحت البيت يسمى هشلان قال عنه
الشاعر سعيد الطس رحمه الله ضمن قصيدة لم أجدها كاملة :
وبيت هشلان مبنيٌ على السابله
ويقول في الردود :
ويشبع الضيف م الترحيب ما سابله
ومعنى
قول الشاعر أن البيت والمزرعة المسماة هشلان مبنية على الطريق يمرها كل عابر سبيل
حتى أن الضيف يشبع من كثرة الترحيب به وكأنه يكرر قول الشاعر مسكين الدارمي :
أضاحك
ضيفي قبل إنزال رحله ..... ويخصب عندي والمحل جديب
و ما
الخصب للأضياف أن يكثر القرى ..... ولكنما وجه الكريم خصيب
ومع
هذا كان سعيد الدندني رحمه الله يكثر التراحيب ويكثر القرى ولعلي هنا أذكر هذه
القصة التي رويت لي عنه أنه كان هناك ( جلّاس ([10])) أي صاعدون من العقبة كانوا في سوق الشعراء في تهامة عددهم يقارب
العشرة حاولوا تجنب المرور على منزله لعلمهم بكثرة ورّاد المنزل ولم يكونوا يرغبون
زيادة التكليف فعندما شاهدهم ذبح ذبيحة
جيدة وأرسل أحد أولاده برأس الذبيحة إلى المستراح وهو المكان الذي سيمرون عليه
ويستريح فيه الصاعد والنازل من العقبة وقال لابنه يعترضهم برأس الذبيحة و يقول لهم
هذا غداكم مات الله يحييكم ويبلغهم أن والده أقسم عليهم ما يتعدونه ، فقالوا لن
نروح إلا بعرضه وحين اقتربوا من الحصون منزله قال شاعرهم :
سلام
يا لدندون يا زافر العقاب ([11])
يا
مكرم الضيفان بالزاد والجلب
وساح
الانصب وسماوا وصار الغصه ([12])
تشهد
على قولي وتشهد فعايله
4- مطير العيش([13]) : أثناء بحثي عن الأشخاص الذين أطلق عليهم لقب ( زافر العقبة)
وجدت هذه المعلومات عن أحد كرماء تلك الديار وهو من بني مالك القبيلة المجاورة
لزهران وهو مطير العيش العاصمي المالكي المتوفي عام 1355 هـ تقريبا وكان أحد
الموقعين على وثيققة دعم قبيلة بني عاصم للملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله عام
1352 هـ، وهو من جرداء بني عاصم من بني مالك وتتبع القرية حالياً محافظة الحجرة في
منطقة الباحة . ولقب العيش أطلق عليه لما كان يقدمه للضيوف وعابري السبيل ومرتادي
مضافته من العيش والأكل والماء وكل ما يحتاجونه لرحلتهم ، وأطلق عليه لقب ( زافر
العقبة ) لأنه منزله في طريق النازلين من السراة إلى تهامة والصاعدين من تهامة إلى
السراة . وقد أطلق على قريته اسم ( قرية مطير العيش ) نسبة إليه وقد قام الأحفاد
وبدعم من الدولة رعاها الله بتجديد هذه القرية وإنشاء متحفاً يرتاده زوار المحافظة
. وقبل الختام أورد هذه القصيدة لشاعر بني مالك الكبير غرم الله الحميم رحمه الله
:
قال الحميم بغيت اشيخ واضحك بشيخان
اضحك بحمدان واحمد بن مغطي وناصر
ومطلق ابن قحيص وابو بكر والسويرق
واصبحت حازب لهم بالحبس من صبح بدري
واثار الاحلام تعمي القلب لا ناض
حلما
واصبحت في الحجره رشدي خص في سبع
(م)الضان
لوما العطاطير قالوا ارع الحيا وانت
منا
ماتت من الجوع ما بين الشتاء
والربيعي
هنا يتحدث الشاعر رحمه الله أنه كان
لا يعطي بالاً لمن ذكرهم في قصيدته حتى أضطرته الظروف لهم ونزل إلى تهامة حين كادت
أغنامه تهلك من قلة المرعى لقلة هطول الأمطار فرحبوا به واكتشف مقدار خطأه وأنهم
الكرماء الذين لا يشق لهم غبار حيث اعتبروه واحداً منهم ولولا الله ثم هم لماتت
أغنامه، والأشخاص الذين ذكرهم هم : حمدان بن ثواب المالكي رحمه الله ذلك العلم
المشهور بالكرم والجود، والآخر هو الشيخ احمد بن مغطي المقبلي الزهراني رحمه الله
من مشايخ زهران ، ومطلق بن قحيص المالكي رحمه الله من وجوه بني مالك ، و ناصر وأبو
بكر والسويرق من الأعيان حينها رحمهم الله جميعاً .
قال ابن خرمان : أوحى لي بكتابة هذا
المقال تواصل واتساب من أحد الأصدقاء يسأل عن هذه المعلومات فتعطل جهاز الجوال مما
أضطرني لتغييره ومع القديم فقدت كل المعلومات للأسف حتى اسم الصديق الذي راسلني
أنسيته مما جعلني أكتب هذا المقال لعله يطلع عليه ويكون له منه فائدة .
ختاماً ليست هذه إلا محاولة لتسجيل وحفظ مآثر
بعض الكرماء الذين سمعنا عنهم ولم ندرك زمنهم ، ولا يعني هذا أنه ليس هناك غيرهم
بل يوجد آخرون بكل تأكيد أتمنى أن يبادر من لديه معلومات إضافية عمن ذكرت أو غيرهم
من منطقة الباحة أو المناطق الأخرى المجاورة أن يضيفها في مقال أو يرسلها لي
مشكوراً موثقة عن طريق الإيميل (zahrani3li@hotmail.com )
والله
ولي التوفيق .
كتبه
/
علي
بن ضيف الله بن خُرمان الزهراني
الدمام
2024 م - 1446 هـ
........................
نشر
في صحيفة النهار الإلكترونية على الرابط :
https://www.annahar-news.com/news/single/16199
[1]) من أعلام زهران ، جمع وتحقيق قينان بن جمعان
الزهراني ص 403 وما بعدها بتصرف .
[2]) أبو ركبة والمفتل أسماء لبعض أنوع البنادق في
زمنهم .
[3]) البيطار : صانع البنادق ، خلة وتهمان : خلل في الصناعة .
[4]) يتمظظ ألّ له : يتجرع الآهات مما حلّ به .
[5]) الوهلة : المرّة ، فتّ لي : أكرمني وفت الخبز
في السمن من أجلي ,
[6]) عيدان و الطاوي : من كرماء القوم كانوا ساكنين
قريبا من الدامر.
[7]) الوجوه المظللة : الوجوه العابسة التي لا تحب
الضيوف .
[8]) من أعلام زهران ، جمع وتحقيق قينا بن جمعان الزهراني
ص 205 وما بعدها .
[9]) المعلومات من ابنه صالح ومن بعض الرواة الآخرين
.
[10]) جلّاس : صاعدون من تهامة الى السراة حيث يقال
جلس لمن طلع ، ويقال للنازل الى تهامة غار ويغور .
[11]) الدندون : سعيد الدندني .
[12]) وساح : جوانب . الأنصب : الجبل المعروف الذي
تقع عليه قرى بالحكم . سماوا : جبل في تهامة بالحكم . صار الغصة : موقع في أصادير
بالحكم .
[13]) المعلومات من مواقع انترنت ومن صحيفة مكة
الإلكترونية وصحيفة غرب الإلكترونية .