بسم الله الرحمن الرحيم
البراق في المستشفى
لايعرف معاناة المريض إلا المريض نفسه , ويختلف المرضى في التعبير عن معاناتهم .. فهناك من يتحمل الآلام بتأوهات وسهر , وهناك من يستطيع التنفيس عن معاناته خاصة إن كان شاعراً ..
وقد ورد المرض على ألسنة الشعراء قديما وحديثا , ومنهم الشاعر أبو هلال العسكري الذي قال في حمى أصابته :
وأخبر أني رحت في حلة الضنى .... ليالي عشر ضامها الله من عشر
تنفضني الحمى ضحى وعشية ..... كما أنتفضت في الدجن قادمتي النسر
تذر علي الورس في وضح الضحى .... وتبدله بالزعفران لدى العصر
إذا أنصرفت جاء الصداع مشمرا .... فأربى عليها في الأذية والشر
وتجعل أعضائي عيونا دوامعا ...... تواصل بين السكب والسجم والهمر
فتحسبه طلا على أقحوانة .... وعهدي به يحكي حبابا على حمر
ولما تمادت عذت منها بحمية .... كمن ترك الرمضاء وانفل في الجمر
وماكان منها إلا بلاء وفتنة ... وضر على الأحرار يالك من ضر
والمتنبي يقول :
وملني الفراش وكان جنبي ... يمل لقاءه في كل عام
قليل عائدي سقم فؤادي .... كثير حاسدي صعب مرامي
عليل الجسم ممتنع القيام .... شديد السكر من غير المدام
ويقول جرير :
تحنى العظام الراجفات من البلى .... وليس لداء الركبتين طبيب
وهنا شاعرنا الذي نحن في صدد الكلام عن قصيدته المحزنة والتي كل منا يكاد حين يسمعها يحس بمعاناة الشاعر في مرضه ويعيشها , وهو الشاعر ( جمعان البراق الزهراني رحمه الله تعالى ) , حيث يقول في قصيدته التي سنعلق على بعض ماورد فيها :
قال البراق اثر ما للستر والعافية اشباه
والمال ميال واب يفنى غني ومعسور
نعم صدق الشاعر رحمه الله , فليس للستر والعافية من شبه مهما كان , فالمال لايعوض فقد الصحة , فكم من غني لم ينفعه غناه , وكم فقير عاش في سعادة وهناء.؟! .. ولكن إلى من يلتجيء المهموم والمريض ؟! .. أ إلى أحد الخلق .؟! وهل ستفيد الشكوى إلى مخلوق ؟!. ولهذا يقول البراق رحمه الله :
يالله تاهب لنا من بعد ذا الشر عوافي
نعم .. إلى الله الملتجأ والمشتكى .!
ثم يواصل بعد ذلك رحمه الله حاساً بمعاناة الآخرين من واقع تجربة :
حليل عين الذي يبلى بصحة مطاول
لم يقل البراق كقول الشاعر الذي سبقه وكان مريضاً نُوِم في مستشفى الزاهر بمكة ومع مرضه إلا أن إنبهاره بمبنى المستشفى في وقتٍ لم يكن يجد أغلب الناس سقفاً جعله يقول :
ياليت صوحية الزاهر يكون بيت له
كانت نظرة البراق مختلفة فهو قد عاش ورأى المباني الجميلة بل سكنها , وعاش التطور والحضارة .. وواصل يشرح معاناته في المستشفى قائلاً :
يشنى حياته وعمره لا رموا به ورا الباب
يرى البراق رحمه الله تعالى أن وضع المريض في مستشفى مطاول كمن يرميه وكأنه بعض سقط المتاع أو مما لايرغب فيه الى درجة أن المريض يكره حياته ويتمنى نهاية عمره ..!!. ماأقرب ماقاله البراق مما قاله أبو نواس في بيته الذي شطره أحمد شوقي بقوله :
( ياويح أهلي أبلى بين أعينهم ) .... ويدرج الموت في جسمي وأعضائي
وينظرون لجنب لاهدوء له .... ( على الفراش ولايدرون مادائي )
ثم يقول يواصل البراق رحمه الله شرح المعاناة فيقول :
ما تسمع الا صياح الناس من دور في دور
المرضى في كل دور يتألمون ويتأوهون , وحين يسمع المريض صياح المرضى الآخرين من شدة الآلام يزداد ألمه وخاصة إذا كان ذو حس رهيف كشاعرنا رحمه الله ..ثم يشرح لنا الشاعر معاناته الشخصية فيقول :
يتكثف الشر طوال اليل واديس واحن
تعبير بليغ وقاسٍ في نفس الوقت , مكابدة ومعاناة وألم وأنين طول الليل دون أن يكون هناك أنيس يحس به وبمعاناته وتزيد آلام المريض بل يتكثف الشر كما وصفه الشاعر عادة في الليل .. وقد قال المتنبي من قبل :
وزائرتي كأن بها حياء ..... فليس تزور إلا في الظلام
جعلت لها المطارف والحشايا .... فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها .... فتوسعه بأنواع السقام
الى قوله :
كأن الصبح يطردها فتجري .... مدامعها بأربعة سجام
ويالطول ليل المريض الذي لايحس به وبطوله إلا المريض نفسه .. وقد قال ابن المعتز :
ما أقصر الليل على الراقد .... وأهون السقم على العائد
ثم يواصل شاعرنا شرح المعاناة في هذا المستشفى وماذا يجري بعد أن تشق أشعة الشمس الأفق مشرقة وبعد أن يبدأ دوام الموظفين والأطباء في المستشفى فيقول :
م الصبح حتى صلاة الظهر فحص (ن ) وتحليل
والقسطرة والتحاليل الشنيعة ومنظار
فحص .. تحليل .. قسطرة .. تحاليل شنيعة .. منظار .. يقوم بعملها الأطباء لمعرفة المرض ومحاولة إيجاد العلاج الناجع , إلا أن المريض ولكثرة مايعانيه يراها تعذيباً فيصفها بالشناعة .!. وقديما قال شاعر يصف إحساسه عند الطبيب :
وتخشعي عند الطبيب كأنه ..... مولى يريد عقوبة العبد
كالنار مبضعه يقلبه .... ويدير مقلة حازم جلد
ولكن هذه المعاناة لاتستمر طوال اليوم حسب وصف البراق حيث تبدأ تنفرج الأمور للشاعر حين يأتي العصر ويحين موعد الزيارة ..! لماذا كل هذا .؟! .. لأن ربعه وجماعته وأحبته يأتون زرافات اليه الى درجة تجعله يتخيل نفسه وسط دار ( الفهيرة النصباء ) وهي من أكبر قرى المنطقة .. تلك القرية المتكاتف أهلها , الساعون الى مواساة من يعاني منهم والوقوف بجانبه .. ثم إن أبناء غامد وزهران الذين يزورون المستشفى يمرون على شاعرنا لما له من شهرة ومحبة في قلوب الناس .. فيقول واصفا هذا الوضع :
وفي العصر كني ادرج وسط دار الفهيرة
مزاورة وانبسط مابين غامد وزهران
لاجل إن مال الفتى في الزحمة إلا ابن عمه
صحيح كلامك رحمك الله فليس للرفيق في وقت الشدة إلا ابن عمه , ولن يكون من هو بين ربعه واصدقائه المحبين له كـالشاعر ( عبدالله بن مصعب ) الذي مرض ولم يزره أحد من أصدقائه ومحبيه فقال حزناً ومعاتبا لهم :
مالي مرضت فلم يعدني عائد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود
أما البراق فلم يكن كذلك فهو المحبوب الواصل المواصل .. إلا أن سعادة المريض لاتستمر كثيرا فهناك آلامه الجسدية وآلام نفسيه أخرى .. ومثل الشاعر رقيق المشاعر , رهيف الإحساس البراق لن ينسى أن يتطرق لمثل هذه الآلام حيث يخبرنا في نهاية قصيدته بما سبب له ألماً نفسياً إضافة إلى آلامه الجسدية فالشاعر الشيخ علي بن خماش الزهراني رحمه الله كان مريضا في تلك الفترة وموجودا بغرفة العناية المركزة ,وكان الطبيبان ( شارس وصلبي ) اللذان لايعرفان من هو علي بن خماش صاحب القول والمكانة في رباع قريته بل في زهران كافة وضعاه بطريقه وصفها البراق بالرمي في غرفة الإنعاش دون أن يكدر ذلك مزاجهما ودون تقدير للمريض أو جماعته .. فيقول البراق :
علي ابن خماش مايعرفه شارس وصلبي
رموه في غرفة الانعاش وارباع دولة
وختاماً أستميحكم العذر إن سببت تشويهاً للقصيدة أوتعكيراً لمزاج القاريء .. وإليكم القصيدة في حلتها القشيبة التي صاغها بها شاعرها ..
القصيدة كاملة :
قال البراق اثر ما للستر والعافية اشباه
والمال ميال واب يفنى غني ومعسور
يالله تاهب لنا من بعد ذا الشر عوافي
حليل عين الذي يبلى بصحة مطاول
يشنى حياته وعمره لا رموا به ورى الباب
ما تسمع الا صياح الناس من دور في دور
اتكبد الشر طوال اليل واديس واحن
ما الصبح حتى صلاة الظهر فحص (ن ) وتحليل
والقسطرة والتحاليل الشنيعة ومنظار
وفي العصر كني ادرج وسط دار الفهيرة
مزاورة وانبسط مابين غامد وزهران
لاجل ان مال الفتى في الزحمة الا ابن عمه
علي ابن خماش مايعرفه شارس وصلبي
رموه في غرفة الانعاش وارباع دولة
رحم الله الشاعر جمعان البراق , ورحم الشاعر علي بن خماش وأسكنهما فسيح جناته ..
..
كتبه العميد الركن م /
علي بن ضيف الله الزهراني
a-z@mail.net.sa
.......
هذا المقال نشر في مجلة تجارة الباحة عام 1432 هـ .